قصص

قصة سجن افتراضي

الشمس مشرقة، الأيام اللي فاتت كانت برد أوي والشمس مكنتش بتطلع، الشتا ده أصله قارص، مش معتاد، النهارده الوضع مختلف، كإنه شتا من الشتويات الدافية اللي اتعودنا عليها، يوم كده اتسلل من وسط الأيام الصعبة، ولما شفت الشمس من شباك أوضتي قررت أمارس هوايتي المفضلة، إني أركب عجلتي وألف شوية في الشوارع وأجيب بالمرة العيش بنفسي والفطار وأي طلبات تانية للبيت…
مدخلتس حتى الحمام، لبست أي حاجة، أول بلوفر شفته على أول بنطلون، وقبل ما أخرج من أوضتي لمحت إنعكاسي في المراية، غريبة!
لو ركزت في وضعي فهو غريب، أنا شحط، عندي 41 سنة، عايش مع أمي، لا متجوز ولا بشتغل، لسه بتصرف عليا، راحت فين السنين اللي فاتت؟ ليه العمر عدى كده، ليه ذاكرتي مشوشة ومش فاكر تفاصيل الماضي، إيه اللي وصلني لده؟
-رايح فين؟
أمي سألتني أول ما شفتني بلبس الخروج..
رديت عليها:
=هدخل الحمام بس أغسل وشي وأنزل أجيب الفطار وأي طلبات عايزاها.
-أيوه يا حبيبي بس الدنيا برد عليك.
=لا، النهارده دفا أوي، مش شايفة الشمس؟
-معرفش، مش مرتاحة للمكوجي الجديد اللي فتح قصادنا.
=هيعمل إيه يعني، هياكلني؟ ولا خايفة أتهور عليه؟
-طب خلي بالك من نفسك، روح هات اللبن والفطار وشوية الطلبات اللي هقول لك عليهم لما تخرج من الحمام ، متسرحش زي عادتك في الشوارع، تيجي علطول.
وخرجت، ركبت عجلتي وانطلقت، مين يقول إن ده رمسيس؟ رمسيس أصله نعمة ولعنة برضه، فرق توقيت، أغلب الوقت تمشي فيه تبقى مش طايق نفسك، من الزحمة للميكروباصات والأتوبيسات اللي في الدوران والشوارع الجانبية والرئيسية وكل شبر والروايح الكريهة بالذات لما تقرب من المحطة، على بعد كيلو منها!
لكن في الوقت ده، الساعة 9 الصبح في يوم شتا دافي، العيال في مدارسهم والناس في مصالحهم، رمسيس بيتحول لحي أصيل، كل شبر فيه بينطق جمال وتاريخ، حاجة كده رايقة…
جبت العيش الطازة من الفرن، كنت ماشي بالعجلة بروقان والعيش ورايا على المسند، فارد دراعاتي وبضحك لما لمحت مشهد في القهوة اللي جنبي، باب القهوة الحديد كان مقفول نص قفلة لتحت، من الفراغ شفت راجل بيمد إيده بشاكوش وبيخبط واحدة على راسها وهو كاتم بوقها بإيده التانية!
من الخضة وقعت من العجلة وكيس العيش طار، وهو…القاتل…لمحني…
ساب الجثة ووقف للحظات وهو بيبصلي وبعدين اتحرك…
جي عليا، بيقرب بسرعة، اتشليت في مكاني، دماغي وقفت عن التفكير، كنت عاجز، مش عارف، مش عارف أعمل إيه، وأخيرًا اتحركت…
ركبت العجلة وانطلقت بأقصى سرعة، كنت ماشي من غير اتجاهات، مش مركز في المسار، علطول، الأقي عربيات أدخل شمال، ألاقي ناس متجمعة أدخل يمين، الأكيد إني كنت بعيد عن البيت وشوية شوية مبقتش عارف أنا فين، وفي لحظة الدنيا ضلمت….
حسيت بوجع رهيب في كل جسمي ومكنتش شايف حاجة، أدركت إني وقعت والوقعة كانت صعبة بقدر السرعة اللي كنت ماشي بيها، جسمي كان مكسر ووشي في الأرض!
إيه اللي حصل؟
رفعت راسي بالعافية لقيت العجلة معجونة وجنبها واقف توكتوك، هو ده، التوكتوك اللي خبطني، الرؤية كانت مشوشة، السواق جري عليا، جربت أتكلم مقدرتش! كنت بحاول أوصف اللي حصل، واللي خلى لساني معقود هو إني مكنتش فاكر ملامحه، القاتل! كل ما أفتكره أشوف وش من غير ملامح، وش ممسوح….
-تعالى معايا.
فوقت على صوت السواق، أنا فعلًا كنت محتاج مساعدة لكن مش قادر أتحرك، السواق ومعاه اتنين رجالة جم وحاولوا يقوموني، صرخت صرخة مكتومة من الألم، الطريق من الأرض لحد التوكتوك كان طويل أوي بالنسبة لي على الوجع اللي حسيت بيه.
-متشكرين يا رجالة.
ده كان السواق، رفع إيده وسلم على الناس اللي ساعدت ومشي بالتوكتوك وأنا معاه…
أنا مش عايز اروح مستشفى، عايز أروح للبيت، أرجع لأمي…
قلتله:
=واحد موت ست في القهوة، مش فاكر شكله، ملامحه ممسوحة، ضربها بشاكوش.
مردش عليا…. هو أنا كنت بتكلم بصوت عالي ولا بكلم نفسي؟ مش عارف أميز، حاسس بدوخة رهيبة…
وأخيرًا الشوارع رجعت مألوفة من تاني…
قادر أميز المحلات والأرصفة و….القهوة
ليه وقفنا قدام القهوة، نفسها اللي الست اتقتلت فيها، فضلت أبص حواليا، محتار، مش عارف ابدأ منين….
السواق نزل، مد إيده ليا…
قلتله:
=لا، لأ، بلاش هنا.
-ليه؟
=هنا الراجل قتلها، جوه القهوة دي.
-القهوة دي؟
=أيوه.
-لأ، أكيد قهوة شبهها، مفيش هنا حاجة، تعالى أحطلك قهوة على دماغك على الأقل، عشان النزيف.
نزيف؟ هو أنا دماغي بتنزف؟ للدرجة دي اتشحورت؟
نزلت معاه ودخلنا القهوة، لقيته من ورايا بيقفل الباب الحديد، مفيش حاجة باينة فعلًا، مفيش جثة، مش هي القهوة، لكن…ثواني!
في نقط دم على الأرضية، والنقط بتزيد كل لما بمشي لحد…الجثة، الست أهي، مرمية على الأرض، دماغها متفشفشة…
فتحت بوقي وكنت هصرخ لولا إني لما اتلفت لقيت الراجل ماسك الشاكوش وبيشاورلي على بوقه: “شششششش”.
أنا مش شايف ملامحه، معقول الوقعة كانت بشعة كده، أنا عندي ارتجاج ولا إيه؟ لا شايف ملامحه دلوقتي ولا قادر افتكرها من وقت ما شفته بيقتلها..
فضلت ماشي قدامه زي ما بيوجهني لحد الحمام، قفل عليا والدنيا بقت ضلمة كحل…
صوت أنفاسي كان عالي أوي، عشان مفيش غيره، مفيش أي صوت، معنديش فكرة هيحصل فيا إيه بعد كده، هو أنا لو صرخت في حد هيسمعني؟ متجرأتش، خفت أصرخ تبقى آخر صرخة والراجل يقتلني في ساعتها، بعد شوية الباب اتفتح…
جثة الست اترمت جنبي، الراجل بص لي، كان معاه الشاكوش، رافعه في وضعية الضرب، رجع تاني بص للجثة، نزل الشاكوش وقفل الباب ومشي…
قبل ما يقفل الباب كنت أنا زحفت على ركبي، حاولت أوصل له، إترجيته:
=أرجوك، خرجني من هنا، مش هنطق، مش هقول حاجة، عايز أرجع لأمي، أرجوك، وربنا ما هتكلم.
لكنه ملتفتش ليا، جالي إحساس قوي إنه كان…ناوي يقتلني بس لما بص على الجثة افتكر إنه لسه هيدور يخفيها ويتخلص منها مش ناقص هو حمل أكبر، هيتصرف في جثتين إزاي؟ ده بس الي وقفه، لولا كده كان زماني في خبر كان…
جالي فكرة، دخلت إيدي جوه جيوبي، إيه ده هو أنا مجبتش الموبايل؟ بسيبه عادي كده وبنزل من غيره؟
ريحة الصرف كانت ممزوجة بريحة الدم اللي عامل زي الصدا، ريحة بشعة، حاسس إني هتخنق، معرفش أنهي إحساس طاغي على التاني، الرعب اللي أنا فيه ولا القرف، سامع قلبي بينبض جامد، صدري بيوجعني، عامل زي الفار اللي اتحشر في مصيدة، مصيدة مؤلمة، مش قادر يتحرك ولا يفكر، عاجز تمامًا…
سمعت حركة الراجل، كان رايح جي، مش مبطل مشي، حركة هستيرية، بيفكر، بيفكر هيخلص من مصيبته إزاي، لو يعرف، أنا مش هتكلم، والله ما هتكلم، كل اللي عايزه أرجع تاني لبيتي، لأوضتي، مكنتش متخيل إني بحب أوضتي كده، وحضن أمي، عايز أترمي في حضن أمي…
وفجأة سمعت حركة تانية، باب القهوة بيخبط!
قمت واتكعبلت في الجثة وأنا بقرب على الباب وبلزق ودني عليه…
سامع حد بينده من بعيد، بيقول:
-إيه يا فتحي فينك؟ عايز أمخمخ بكوباية شاي في الخمسينة، فينك ياض مش فاتح ليه…
الزاير سكت شوية وبعدين قال:
-سامعك يالا، أنت معاك حته جوه ولا إيه؟
الباب الحديد اتفتح بسرعة، الزاير ضرب على وتر حساس، هو فعلًا في معاه حد جوه لكن مش معاد غرامي، معاه جثة ورهينة…. أنا…
المعلومة اللي طلعت بيها إن الجاني إسمه “فتحي”، المجرم اللي خاطفني وحابسني مع الجثة في الحمام اللي ميسعش غير نفر واحد…
“فتحي” فتح الباب عشان خاف يتفضح، كون إن في حد متأكد إنه موجود وإصراره إنه ميفتحش ده بالعكس يثير الشبهات…
وأول ما فتح الزاير قال له:
-إيه يا عم، مانت لوحدك، مش بتفتح ليه وفين العيال بتوعك؟
-قلتلهم ييجوا بليل، عايز أريح.
-خير؟ ما القهوة علطول شغالة؟
أهو حاسس إني مش مظبوط من إمبارح، باين دور برد، وكنت عايز أبعد عن البيت، شادد مع أهلي.
سمعت خطوات تانية، الناس بدأت تيجي على القهوة…
-مش شغالين، تعالوا بليل.
“فتحي” حاول يمشيهم لكن كانوا عاملين زي النمل، مش بيلحق يبلغ الموجودين وييجوا عليهم ناس تانيين…
هي دي فرصتي الوحيدة! لو مستغلتهاش مش هيبقى ليا فرصة تانية للنجاة….
خبطت بعزم ما فيا على الباب، ومع الخبطة التانية فتحت بوقي وكنت هصرخ، الباب اتفتح وخبطة نزلت على صدري واتزقيت، ده كان “فتحي”، خبطته الرهيبة والزغرة اللي ادهاني كانت كافية تخليني أكتم الصرخة، لسه كنت هقول له يرحمني، هترجاه يخرجني من هنا لكنه خبطني تاني، إيده قوية أوي، حاسس كإن عضم صدري اتكسر، أنا عايز أروح لأمي، كل اللي عايزه أروح لأمي، مش عايز حاجة تانية، أنا اصلًا مش عارف أشوف ملامحه، لحد دلوقتي مش عارف أشوفه، مش فاهم في إيه…
إيه اللي بيحصل لما الواحد يقعد في الضلمة وقت كبير؟ اللي بيحصل إن عينه بتاخد عليها وبيبدأ يشوف في العتمة، زيه زي حيوانات الغابة، بقيت قادر أشوف الجثة، عنيها كانت مفتوحة عالآخر وبوقها كمان، الدبان ملموم حواليها، شعرها مبلول، كإنه متحني بحنة حمرة، وخيوط الدم ناشفة على جبينها وحتت تانية من وشها، حاسس إنها بتبصلي، لما بتحرك عنيها بتتحرك معايا، رصداني، مش عايز أموت، مش عايز أبقى زيها….
الناس في القهوة بيضحكوا وبيرغوا، وفي الشارع كمان، قادر أسمع خطواتهم وكلامهم من الشباك، صحيح الكلام مش واضح، مش عارف أفسره، لكن قادر أميز الطاقة اللي فيهم، الدنيا ماشية، الكون موقفش عشان أنا غايب!
أخيرًا الحركة في القهوة اختفت، الناس كلهم مشيوا، “فتحي” نجح يقنعهم ييجوا بليل، ورجعنا تاني أنا وهو والجثة لوحدنا…
سامعه بيقرب من الحمام، أول ما يفتح هقول له تاني، هحلفله إني مش هتكلم، هتحجج بأي حاجة لأمي، هقول لها إني خبطت في توكتوك وإني أنا الغلطان وإني اتفشفشت، وحد وداني أقرب مستشفى عشان كده اتأخرت، هنسى اللي شفته وإني عرفت البني آدم ده من الأساس…
بس هو مفتحش، ليه، ليييه؟
سمعته بيتكلم، قال:
-بتعمل إيه يا واد عمي، لسه الناس اللي عندك مسافرين؟ وأنت طبعًا مقطوع للبيت بتحرسه؟ بجد؟ صايع فين وسايب البيت؟ خبرك إسود، مش خايف تتقفش؟ اسماعيلية إيه اللي أنت فيها؟ طب بقولك، كنت عايز أعدي أركن التوكتوك هناك عشان هروح لواحد معرفة بيغفر في نفس المنطقة، بيغفر بيت قريب منكم ومش عاوزه يشوف التوكتوك عشان العين، مش ناقصين، كنت قلتلي عوايدك تسيب المفاتيح وتخبيها لما تطلع مشوار عشان متضيعش….حلو أوي، في حوض الزرع بره البيت، ماشي….لا متخفش، مش هغيب وبعدين مسافر أنت الإسماعيلية وخايف مني أطول؟ لا، أكيد همشي قبل ما أنت تهل بكتير.
هيسيبنا ويمشي؟ أخدت نفس طويل، ارتحت للفكرة، وجوده بيوترني وبعده ولو لساعة هيريحني شوية، أخيرًا بدأت ضربات قلبي تنتظم، بعد ما كان في عركة جوه صدري، ده كان قبل ما الباب يتفتح وألاقي “فتحي” داخل عليا، كان ماسك ملاية، شال الجثة وحطها جواها ولف الملاية عليها لحد ما اتدارت، قال لي وهو بيعمل كده بنفس متقطع:
-يالا…على…بره.
إيه؟ هيمشيني؟ أخيرًا اقتنع وقلبه رق، صعبت عليه؟ صح، وجودي ملوش لازمة وأكيد بعد الرعب اللي شفته مش هنطق، لقيته بيشاور على بره الحمام براسه، قصده أخرج بره الحمام مش زي ما جه في بالي هيحررني.
خرجت من غير كلام. “فتحي” كان لسه شايل الجثة، لاحظت إن الباب الحديد مش مقفول على الآخر، فيه فراغ تحت، بس ده فراغ قليل…
خطرت على بالي فكرة، “فتحي” شايل الجثة دلوقتي، مش هيلحق، مش هيلحق يمسكني، معقول؟ أهرب؟
بس الفراغ بسيط مش هيساعي جسمي، يقدر يعدي منه طفل، مش راجل بحجمي، ولو، هجرب، هيحصل إيه يعني؟
جريت على الباب الحديد، مددت وإتدألجت من الفتحة وعديت منها!
إزاي؟ قدرت أعدي إزاي؟ أنا حتى متزنقتش، عديت بمنتهى السهولة، ما علينا، المهم إني عديت، وجريت، جريت بأقصى سرعة، فضل أجري شوية وبعدين وقفت، قررت أستنجد بالناس بدل ما أكمل جري، قربت من ست في الأربعينات وقلتلها إن في راجل خطفني وبيطاردني، شفت على وشها الذعر، كانت خايفة مني، تلاقيها فاكراني بعمل عليها دور وعايز أخطفها ، بعدت عني وسرعت في خطوتها، روحت لمجموعة شباب تانيين وحاولت أتكلم معاهم، تجاهلوني، وكإني لوحدي في الكون برغم الزحمة اللي حواليا، هي الناس حصل لها إيه؟ إيه اللامبالاة دي؟ يأما مش مصدقين، يأما خايفين، يأما أصلًا مش مهتمين، ودول الأغلبية….
ودي كانت أكبر غلطة عملتها، إني وقفت، لو كنت كملت جري كنت نجيت، لكن “فتحي” لحقني، التوكتوك بتاعه ظهر قدامي، كان قريب، قريب أوي مني، معنديش فرصة أهرب، نزل وهو غضبان، برغم إني لسه مش شايف ملامحه، لسه وشه ممسوح، بس كنت قادر أميز كمية الغضب اللي فيه، جرني وسط الناس اللي محدش فيهم اتحرك وحطني في التوكتوك وجري بسرعة تاني على القهوة.
زقني على الحمام وقفله وفضل يضرب فيا، كنت هموت، كان بيضرب بإيديه الاتنين في كل جسمي من غير ما يركز هو بيضرب فين…
-أي حركة ولا نفس كمان وهتحصلها، فاهم؟
حركت راسي بأكد على اللي بيقوله من غير ما أتكلم…
بعد شوية، مش عارف قد إيه بالظبط، كتير ولا قليل أصلي فقدت إحساسي بالوقت، سمعت الباب الحديد بيفتح وخطوات بتخرج من القهوة…
“فتحي” قال بصوت عالي:
-متشكر يا كبير، مش هتأخر عليك، بليل عربيتك هتكون عندك.
بعدها الباب اتفتح عليا…”فتحي” قال:
-يالا.
=هنروح على فين؟
-لسه بتجادل وبتسأل؟
وضربني على كتفي…
برغم اللي كنت فيه كان على لساني اسأله “هو وشك ماله؟ ليه ملامحك مش باينة؟”
كان عندي فضول رهيب أفهم ليه وشه ممسوح، وياترى أنا بس اللي شايفه كده ولا كل الناس؟
طلعنا عالشارع قدام القهوة بالظبط، كان في عربية مركونة، عربية موديلها قديم، مهكعة، فتح الشنطة وحط فيها الملاية اللي فيها الجثة وقفل، فتحلي الباب القدام وأمرني أدخل، دخلت فورًا.
ركب جنبي في كرسي السواق ومشي بالعربية، كان ماشي بسرعة رهيبة، وبرغم كده بعد شوية حسيت إننا بنتحرك ببطء، شايف كل حركة بره العربية بطيئة، بطيئة بشكل مريب، كل لحظة بتعدي عليا كإن حد بيطعنني في صدري، مرة ورا مرة ورا مرة… أمي، عاملة إيه؟ يا ترى حاسة بإيه وأنا ضايع ومش عارفة تلاقيني؟ مش قادر أوقف نفسي عن التفكير فيها وده زود الوجع، حرقة قلبها عليا، إحساس العجز اللي أكيد حاساه، لجأت لمين، عملت إيه؟ نزلت الشارع تدور عليا، كلمت الشرطة؟ لسه متماسكة؟ هشوفها تاني ولا لأ؟ لو كنت أعرف….مكنتش نزلت أو على الأقل قعدت شوية زيادة معاها الصبح، اتمليت من وشها…
أنا شايف وشوش الناس، ملامحهم واضحة، كل الناس بره العربية ملامحهم واضحة، بصيت جنبي على “فتحي”، وشه ممسوح! لسه مفيش ملامح باينة، بس مش وشه بس اللي غريب، أنا عيني لقطت السما، السحاب والفراغ اللي في الوسط، الألوان غريبة، وكمان السحاب مش متناسق، بمعنى السحابة يبقى ليها شكل معين وفجأة تبقى خطوط أو متكملش، كإنها رسمة مش مظبوطة…
-وصلنا!
فوقت على صوت “فتحي”، إحنا في مكان فاضي، مدينة من المدن الجديدة، مش عارف أحدد أنهي مدينة، البيوت هنا ما بينها مسافات، والناس في الشارع يتعدوا على الصوابع، وأكيد كل واحد في حاله، لو الأرض اتشقت وبلعت بني آدم محدش هينجده ولا هيلتفت، إذا كان في الحي بتاعي الشعبي الأصيل الناس باعتني وفضلوا سلامهم النفسي، هيبقى هنا في أمل؟
لأ، “فتحي” مش هيقتلني، لو كان عايز يقتلني كان قتلني فعلًا، كان في قدامه فرص كتير لكن معملهاش، ده اللي بحاول أقنع بيه نفسي، كإني داخل أوضة عمليات وأنا مدرك إني احتمال كبير مطلعش منها حي، رايح لقدري برجلي بس مضطر، معنديش إختيار، ومفيش غير الأمل أمسك فيه وأقول يارب، “يارب”.
لقيت نفسي بدخل بيت كبير، بنزل السلالم لحد أوضة معينة و”فتحي” بيأمرني أدخلها، دي أوضة الغفير قريبه، هي أوسع أكيد من الحمام وظروفها أحسن، مفيهاش نفس الريحة البشعة، لكن هل أنا حالي أفضل هنا، أكيد لأ…
الحيرة زادت، مبقتش فاهم “فتحي” بيفكر في إيه، ليه نقلني هنا؟
اتجرأت أخيرًا وسألته:
=إنت سايبني ليه؟ هتعمل فيا إيه؟ ليه المكان ده؟
-ششششششش، ياض أنت زنان يالا، يا عيني على أهلك اللي مستحملينك، عيل لزج، أقعد هنا وأكتم مسمعش حسك لحد ما ااجي.
وقفل عليا….
المرة دي الجثة مش معايا ، أخدها ومشي…
لقيت نفسي غصب عني بفكر في حاجات مكنتش تخطر على بالي، زي هل أنا كنت كويس مع أمي؟ كنت بسمع كلامها ولا بعند وبضايقها؟ ولا مش بسمع الكلام بما فيه الكفاية؟ طب أنا السبب في إن أبويا يهجرنا ويمشي، أنا اللي زودت الحمل ولولايا كان زمانهم لسه مع بعض ومكنش حس بالعجز والقهر عشان مش قادر يسد على مصاريفنا؟ هل كنت كويس مع صحابي وحيوانات الشارع والناس المساكين اللي مالين الشوارع؟
لو أقدر أرجع بس، أرجع لكام يوم كنت هبقى أحسن واحد في الدنيا مش هزعل أمي ابدًا ولا هضايق حد، مدرس الدين بتاعي قال لي إن الإنسان سيرة، لما سألته يقصد إيه، قال إن أفعال الخير بتبقى والناس بتفتكر البني آدم بيها بعد ما يموت وبتدعيله، ليه الذكرى دي مش بعيدة، ليه حاسسها قريبة كإنها حصلت قريب أوي مش من سنين كتير؟
غريبة؟ معدتي بتقرص، معقول؟ جعان؟ ليا نفس آاكل، فجأة الجوع قرصني، حاسس إني ممكن أاكل أي حاجة ولو حتى تراب.
معرفش فات وقت قد إيه، بس وقت كبير، لا “فتحي” عدى عليا ولا سمعت أي حركة…
الشمس غابت والدنيا ضلمت ومع الضلمة سمعته، صوت واطي، همس…مكنتش مفسر حاجة من اللي بتتقال بس بعد كده سمعت:
-أنت اللي جبته لنفسك!
هو في حد هنا معانا، حد غيري أنا و”فتحي”؟
=ساعدوووني، أنا مخطوف، ساعدوني.
محدش استجاب، هو كان إيه ده؟ بخرف؟ لكن…لا لا أنا سمعت حد، سمعت حد.
مسمعتش أي صوت بعد كده، لحد ما أخيرًا “فتحي” فتح الباب.
فتح النور. شايف خطوط العرق متجمعة على جبينه وبتنزل على وشه اللي من غير ملامح. نزل على ركبه الاتنين وقعد جنبي.
بينهج جامد وجسمه سايب… ببصله بجنب عنيا، بقرب منه بحذر وبقول له:
=أنا مم..كن أساعدك.
-أنت تساعدني أنا؟
=أيوه، الست…ممكن أساعدك معاها لو عايز،أجي معاك، أشيل حاجة.
-قصدك تساعدني نتاوي الجثة؟
هزيت راسي بأكد ده، مش قادر أنطقها.
-لا يا حبيبي متقلقش، خلاص، أنا اتصرفت.
دقات قلبي حاسس بيها، بقت سريعة تاني، ياريتني أقدر اشوف ملامحه، اشوف عنيه، يمكن أقدر أقرا اللي ناوي عليه…
-الولية الغبية، كان زمانها حتة واحدة، دماغها فيها وبتتنفس…
معلقتش…هو كمل:
-ماحنا كنا ماشيين حلاوة، حب إيه وكلام فاضي إيه، هي عارفة إننا كنا بنروق على بعض، مخدعتهاش، مسبلتش ولا قلتلها بحبك وبهواكي وبموت في التراب اللي بتمشي عليه، فضلنا على كده ييجي سنتين لحد ما قابلت بنت الحلال وحسيت إني لازم اتأهل وأدخل دنيا، قوم إيه، الولية تتجنن، وتقول لي اللي بينا، بينا إيه؟ هو إيه اللي بيننا؟ وقال إيه هتروح تقول للعروسة وأهلها، أنا ميهمنيش، كانت تغور وتقول اللي نفسها فيه، أعلى ما في خيلها تركبه، كنت هنكر كل ده ولو حتى معرفتش أنكر، أنا راجل ميعبنيش، هي اللي غبية وهتفضح نفسها، هقول لهم محدش له عندي حاجة، ليا علاكات وماله، كان ليا علاكات وقلت استقر، فيها حاجة دي؟
حركت راسي يمين وشمال، اللي هو عداك العيب.
كمل:
-لكن هي بقى زنت على خراب عشها، فضلت تنخور ورايا، بنت الأبالسة راقبتني وعرفت المحظور، البيزنس اللي على جنب، اللي هو معيشني فل ومخليني أقدر أرفع عيني على أهل خطيبتشي، وهو الواحد يعرف يعيش بأجرة التوكتوك ولا حتى بوظيفة ومركز دلوقتي؟ شافتني وأنا بوزع…
=بتوزع؟
-كيف، أصناف وأصناف من الكيف، ما يطلبه الجمهور، بشوف التريند طالع على إيه وأجيبه وابيعه، بودرة، حقن، حبوب، كله…وده بقى المحظور، اللي فات حمادة وده حمادة تاني خالص، ده مينفعش أعديه، أصلي حتى لو رضتها دلوقتي، على فرض كنسلت الخطوبة وفضلت مع سندريلا ذات الحسب والنسب مهي اقرب مطب هلاقيها برضه بتهددني وتبتزني، ملوش آخر، هي اللي حكمت على نفسها، راحتله برجلها، الموت، خططت للموضوع من إمبارح، مكلمتهاش في الموبايل عشان لما أهلها ولا معارفها يبلغوا عن اختفائها ميلقونيش متصل بيها في يومها ولا حتى قبلها بيوم، أنا استنيتها في الطريق اللي دايمًا بتمشي فيه، عملت فيها الحبيب الندمان المشتاق، وعدتها إني مش هتجوز بنت الرفدي وقلت إني مش عايز غيرها وعرفت بقيمتها، وشوية كلام فاضي من اللي بياكل عقل النسوان، وجتلي على القهوة وأنت يا فقري عديت في نفس اللحظة اللي بقتلها فيها وشفتني.
=وأنا هعمل إني مشفتكش، اعتبرني معدتش.
-طب واللي هيعمل نفسه مشافش ده، بيجري في الشوارع ويستنجد بالناس ويبقى خلاص هيحكيلهم عن كل حاجة؟
=غلطة ومش هتتكرر تاني، مش هعملها، هخليني في حالي.
الدنيا فجأة لفت بيا، فقدت الاتزان، كل حاجة دخلت في بعض، بعدها شفتني وشفت “فتحي” من زواية في الأوضة! أشكالنا كانت مشوشة كإنه خلل، لا الأجسام ولا الوشوش باينة، إيه ده؟ حصل لي إيه؟ خرجت بره جسمي؟ مش ده اللي بيحصل للناس أوقات لما بيتخدروا تخدير كامل قبل العمليات أو لما يبقوا في غيبوبة، ده اللي سمعته. وفي لحظة رجعت تاني جوه جسمي، بصيت ل”فتحي” باستغراب، المرة دي مش عشان وشه الممسوح لكن عشان اللي لسه حاصل معايا.
-مالك؟ أكيد هفتان، مانت مكلتش حاجة من الصبح، تصدق وأنا كمان، بس أكل إيه ده اللي هناكله، هنجيب منين أكل؟
=مش…مش عايز أاكل.
-محتاج تاكل، أنت دوخت.
=عايز أرجع البيت.
-طب ده ينفع، يعني أنت مش بس شوفتني بقتل ده أنا حكيتلك عن شغلي، عن التجارة اللي توديني ورا الشمس، تفتكر بعد ده كله هرجعك البيت؟
=أومال هفضل قاعد هنا؟
-لا، متمشيش، وابن عمي اللي جي الصبح ده، وأهل المكان اللي هييجوا كمان كام يوم؟
أومال هروح فين؟؟
فجأة خرجت من المكان اللي كنت فيه، لقيت نفسي في حته مقطوعة في عز الليل، الجو كان برد، برد أوي لدرجة إن النفس اللي خارج مني كان بيتحول لبخار ، في واحد قدامي بيتكلم، ده مش بيتكلم ده شكله بيزعق، فاتح بوقه على الآخر ومش بيفصل، مع إني مش سامعه! المشهد صامت لكني استنتجت ده من حركة بوقه. لقيتني بطلع حاجة من جيبي وبغرزها ف جنبه والدم بينتشر في جنبه مطرح الطعنة! وبعدين…لقيت نفسي ف مكان تاني، ملاهي قديمة وعلى قد حالها، اللعب شكلها مضحضح، وتقريبًا مفيش ناس، مفيش غير واحدة واقفة جنبي، مشينا مع بعض لحد بيت الرعب، دخلناه، الدنيا كانت ضلمة ما عدا الأضواء البسيطة في اللعبة، لمض حمرة لزوم الرعب يعني والهلع، وفجأة لفيت إيدي الاتنين حوالين رقبتها وخنقتها لحد ما روحها طلعت، بعدها روحت على مكان تالت، كنت في شقة مع اتنين رجالة، كنت حاسس بغليان، مش طايقهم، مشيت بسرعة لواحد فيهم كان واقف على بعد كام خطوة مني في البلكونة، زقيته، وقع على عربية وإزازها دخل في جسمه، مات علطول والتاني قبل ما يستوعب مسكته من راسه وضربتها في الحيطة ووقع ميت راخر….
رجعت تاني للواقع بتاعي، لأول لحظة مكنتش فاهم اللي شفته، بس بعدها استوعبت، أنا شفت جرايم “فتحي” السابقة، دي مكنتش أول جريمة ليه!
ده متمرس….بس السؤال دلوقتي، والأهم من جرايمه، أنا ليه شفتها؟
هو إيه اللي بيحصل لي من أول اليوم؟ ويعني هو أنا اللي هصعب عليه؟ الموت بالنسبة له سهل، إشمعنى هيبقى عليا؟
-مالك؟ بتبصلي كده ليه؟
=أنا ال…
-أنت إيه؟
=أنا اللي بيحصل لي حاجات غريبة من بداية اليوم.
-حاجة غير إنك شفتني بقتل الولية؟
=تصدق اه، حاجات تانية مرعبة زي اللي شفته منك ويمكن أكتر.
-مش بقول لك هفتان، ده جوع ده وضغط واطي لمؤاخذة.
طلعت مني ضحكة غصب عني وقلت:
=أنت اللي شكلك جعان.
-إلا جعان، ده أنا هموت مالجوع.
ااااه، فجأة هجمت عليا شوية مشاعر قوية، خوف، وحشة، تاني، نفس المشاعر بنفس القوة اللي كنت حاسس بيها من وقت بعد ما كنت هديت، غريبة! ليه كده مرة واحدة وبالعنف ده، ليه رجعت تاني خايف أوي على حياتي وعايز اشوف أمي بأي طريقة، بقيت شايف “فتحي” شيطان برغم إني مش مميز ملامحه، لدرجة إن جسمي وجعني، قلبي وجعني وبطني وكل حته فيا.
بعدها “فتحي” مشي، مش مهم قرصة بطني مش فارقالي، زاهد في الأكل وفي كل حاجة، مش عايز غير إني أرجع البيت، كنت حاسس إن الحزن هيكتم نفسي، كآبة فظيعة، فظيعة، ولأول مرة وبرغم خوفي أتمنى الموت! مشاعر معقدة ومتناقضة، عايز أرجع لأمي، عايز أعيش، وفي نفس الوقت عايز الوضع ده يخلص بأي شكل ولو بالموت، أنا بتعذب، مش بس جسمي وجعني من كتر الضرب اللي خدته، العذاب النفسي أشد وأقسى، الجهل بالمصير، باللي ناويه ليك مجرم متمرس.
“فتحي” جه وف إيده أكياس وأكياس من الأكل، فرش على الأرض، كباب وكفتة وفراخ وعيش وسلطات… شاورلي عشان آكل، طبعًا أنا بعد ما شفت المنظر وشميت الريحة مقدرتش أقاوم وأنقضيت على الأكل، فضلت أاكل حتى بعد ما شبعت.
-شبعت؟
هزيت راسي وقلت:
=الحمد لله.
طلع من جيبه حقنة وحط إيده على كتفي وقال:
-دونًا عنهم كلهم أنت متستحقش الموت. عشان كده أنا مش هعذبك، هموتك من غير ألم، ثق فيا.
=لأ، بلاااش، أرجوك يا عمو، عايز أمي، بلااااش، لا لا.
مسك إيدي وغرز الحقنة في دراعي…
عيني جت على المراية اللي قصادنا، شفت إنعكاسي، كان…لعيل صغير!
عيل عمره ميتعداش 11 سنة، ألا صحيح، أنا قلتله “عمو”؟!
مين اللي في المراية دي، مين العيل ده؟ ملحقتش أفكر، غبت عن الوعي…مت…
…………………………..
الشمس شفتها بتخترق شباك أوضتي فقررت أمارس هوايتي المفضلة، أركب عجلتي وألف شوية في الشوارع وأجيب بالمرة العيش بنفسي والفطار وأي طلبات تانية للبيت…
لبست أي حاجة، أول بلوفر شفته على أول بنطلون…
لو ركزت في وضعي فهو غريب، أنا شحط، عندي 41 سنة، عايش مع أمي، لا متجوز ولا بشتغل، لسه بتصرف عليا، راحت فين السنين اللي فاتت؟ ليه العمر عدى كده، ليه ذاكرتي مشوشة ومش فاكر تفاصيل الماضي؟
-رايح فين؟
=هدخل الحمام بس أغسل وشي وأنزل أجيب الفطار وأي طلبات عايزاها.
-أيوه يا حبيبي بس الدنيا برد عليك.
=لا، النهارده دفا أوي، مش شايفة الشمس؟
-معرفش، مش مرتاحة للمكوجي الجديد اللي فتح قصادنا.
=هيعمل إيه يعني، هياكلني؟ ولا خايفة أتهور عليه؟
-طب خلي بالك من نفسك، روح هات اللبن والفطار وشوية الطلبات…..
مسمعتش باقي اللي أمي قالت عليه، غريبة! أنا ليه حاسس إن المشهد ده متكرر، حصل قبل كده، بكل تفاصيله، الشمس، الدفا، الهدوم اللي لابسها، الكلام اللي بيتقال، وليه مش فاكر حاجة من الماضي بتاعي، أنا مين؟!
“إيه ده، إيه ده، هو ده المفروض يحصل عادي؟”…..
سامع صوت جري بعد ما حد قال الجملة دي، صاحب الخطوات وقف، كان بينهج وقال:
“لأ مش عادي،ليه اليوم بيتكرر؟”
اليوم بيتكرر؟ افتكرت افتكرت! لأ، مش عايز أعيش اليوم ده تاني، مش عايز أموت، كفاية، مش عايز أموت….
هو أنا ليه مش فاكر حاجة عن حياتي، عن البيت اللي أنا فيه، والست اللي المفروض إنها أمي…
-طب خلي بالك من نفسك، روح هات اللبن والفطار وشوية الطلبات…..
المرة دي موقفتش أسمع باقي كلامها، سبتها وروحت على أقرب مراية وبصيت فيها، شايف طفل، شفته قبل كده، في المراية برضه بس في مكان تاني، أوضة غفير في فيلا كنت محبوس فيها، بس أنا مش عيل، أنا مش ده، هو ده….إبنها؟
إبن الست اللي قدامي؟ عشان كده لما بتتكلم معايا أو معاه بتتكلم كإنه طفل، قلقها الزايد عليه والدلع، مش عايزاه يسرح في الشوارع وقلقانة من المكوجي، وأنا مش قادر أفتكر أي أحداث عن المكان ده ولا الحياة بتاعة الولد عشان أنا مش هو…طب أنا مين؟
…………………………
“مش رايح المدرسة، إعملوا اللي تعملوه، منيش رايح”…..”بقولك إيه هاتي فلوس أحسن ما أصورلك جريمة هنا”….”اه، هخلع شعرها في إيدي عادي إذا ما خلعتش راسها، بتتسرمحلي لحد 8 بليل ليه، بلا جامعة ودروس بلا كلام فارغ، تقعد في أوضتها زيها زي الكلاب وتتحبس ويجيلها أكلها وتطفحه بسكات”….
مشاهد هنا وهناك هجمت على راسي مرة واحدة، أول مشهد وأنا بزعق في أبويا وأمي، كنت صغير، بقول لهم مش هروح المدرسة، بتحداهم ومش خايف منهم، المشهد التاني بهدد أمي عشان تديني فلوس يأما هرتكب جريمة، المشهد التالت وأنا ماسك في شعر أختي وبجرها منه عشان بعد الجامعة راحت لسنتر دروس وبزعق في أبويا وأمي اللي كانوا واقفين ركبهم بتخبط من الرعب…
بعدها هجمت مشاهد تانية كتير، كتير أوي، وأنا بسهر مع ناس لبش، بشرب وبدخل في علاقات مشبوهة، بشم مواد مخدرة، بعمل كل حاجة غلط، وبزرع الخوف في كل مكان أروحه، معنديش عزيز، مفيش معاملة نضيفة، بسحب الهوا من الأجواء اللي حواليا، كإني عنصر مميت لأي حاجة حلوة، ناقص أموت الشجر والزرع واخليهم يدبلوا…
لكن إزاي؟ أنا ليا حياتين؟ أنا الولد الصغير المطيع اللي بيحب مامته وبيحب حيه وبيستمتع بالعجلة بتاعته وبرحلاته الصغيرة وأنا برضه الرادل التاني الفاسد الضايع المجرم؟
وإزاي عشت أحاسيس الطفل اللي اتخطف واتقتل، ذنبه بس إنه كان في المكان الغلط في الوقت الغلط؟
كنت حاسس بألمه وخوفه واشتياقه لبيته وأمه كإنه بيتي أنا وأمي وكإنها حياتي اللي خايف أفقدها وجسمي الموجوع؟
……………………
“فتحي”؟
بصيت قدامي لقيتها واقفة في الطرقة، أمي…
بتندهني بحذر وبصوت واطي….
-مال وشك؟
ماله؟
بصيت في الإزاز بتاع النيش، وشي كان بينزف….ثواني، ثواني، هي ندهتني ب”فتحي”؟
“لأ، بلاااش، أرجوك يا عمو، عايز أمي، بلااااش، لا لا”
دي كانت جملته الأخيرة، جملة الطفل “أنس”، بعدها حاول يقاوم، عضني في وشي بعنف، عورني جامد ومع ذلك قدرت أثبته وأحقنه بالمهدئات اللي كانت كافية تقتل خمسة! وده لإني….أنا “فتحي”…
أنا المجرم، أنا اللي أهلي كانوا طيبين معايا، وحاولوا معايا بكل الطرق، شوية بالشدة، شوية باللين، مستخسروش فيا كل طرق التربية، مفيش فايدة، القسوة اللي فيا والإجرام ، عامل زي النبت الشيطاني، مليش علاقة بأي ظروف حواليا ولا بالناس الطيبين في حياتي، اخترت الشر، اخترت أبقى كده، والولد…أنا…أنا اللي قتلته، مش قادر، مش مستحمل، كل ده كان حاسس بيه؟ كل المشاعر دي؟ دماغي هتنفجر، مش قادر استحمل كم المشاعر وتأنيب الضمير، هو أنا فين؟ أنا مت وده جزائي؟
…………………………
“إيه ده، إيه ده، هو ده المفروض يحصل عادي؟”…..
“لأ مش عادي، ليه اليوم بيتكرر؟”
افتكرت! أنا اتقبض عليا، عرفوا إني قتلت الست وقتلت الولد الصغير اللي شاف الجريمة، لكن…عرضوا عليا حاجة غريبة جدًا، بدل ما اتعدم، قالولي إني هقضي وقت في السجن، عقوبة مدتها 5 دقايق! أنا مكنتش مصدق، فاكرهم بيستهزأوا بيا، لكن العرض طلع حقيقي، عقوبتي 5 دقايق لو وافقت، 5 دقايق بس وهرجع لحياتي تاني، هرجع أتنفس حرية، وأكمل في طريقي وأعمل فلوس قد اللي عملتها 10 مرات، ده إيه الحلاوة دي! طيب إيه شكل العقوبة؟
العقوبة هي عبارة عن إني أعيش الجريمة من تاني، نفس الأحداث، هي هي بالظبط بس من وجهة نظر الضحية! أعيش أحاسيسه، أفكاره، بالمختصر ابقى هو، يا سلام، وماله، أعيش ما أعيش ليه؟ سهلة ومقدور عليها…هو ده اللي كنت فاكره…
الخدعة كانت إن الخمس دقايق هيكونوا يوم كامل، زي فكرة الحلم بالظبط، التوقيت ومرور الزمن بيبقى مختلف، ممكن يعيشوني يوم كامل في الدقايق دي وممكن لو حابين شهر أو سنة أو قرن بحاله! إحساسي بالوقت جوه التجربة هيبقى غير إحساس الناس في الواقع، الخدعة التانية هي إني هنسى تمامًا شخصيتي الحقيقية وهبقى الولد، ده اللي محدش عرفهوني، من كتر ما هتقمص مشاعره هنسى “فتحي”، هكون فعليًا الولد مش أنا، الخدعة التالتة هي المخاطر اللي برضه مقالوهاليش، أولًا الخلل اللي ممكن يحصل زي إني لما أحاول أفتكر ذكرياتي مش هلاقي ذكريات، ولا هفتكر ماضي الولد ولا الماضي بتاعي، هبقى مشوش، أما بقى أكبر سر خبوه هو إن التجربة تحت التجربة! أنا أول واحد هيتنفذ عليه عقوبة السجن الافتراضي، سجن جوه الضحية اللي قتلتها، أنا فار تجارب….
عشان كده!
عشان كده كنت بعيش التجربة كإنه حاضر وأوقات كأنه ماضي، وعشان كده برضه سمعت ناس من اللي بيشرفوا على التجربة بيصرخوا لما اليوم بدأ يتكرر من تاني، واحد سأل ” هو ده المفروض يحصل؟” والتاني بيرد “لأ ده مش عادي!”، حصل خلل مكنوش عاملين حسابه، أصلًا التجربة ليوم واحد كانت كافية تحرق خلايا مخي وتخليني أشت وأتجنن، العقل البشري طلع ميستحملش ده، زي كده لما الإنسان يتعرض لكهربا بفولط عالي الجسم ميستحملوش، التجربة نفس الحكاية، إحنا مش مهيأين نعيش أحاسيس ضحايانا، يمكن في أوقات المجرم يستحق، ده مش محل نقاش، لكنه مش هيقدر يرجع لعقله تاني، الأبحاث وتجربة السجن الافتراضي كان غرضها كده، إن المجرم يعيش أحاسيس ضحيته ويرجع تاني عشان يدرك الللي عمله وقلبه يرق، ويبقى شخص راقي ورحيم ومتعاطف مع الناس في المجتمع حواليه، النتيجة إن العقل راح، محدش حرفيًا يستحمل يحس بالظبط باللي عمله في حد تاني، في حالتي بقى كمان اليوم اتكرر، الأحداث بترجع من تاني، بعيش من تاني مشاعر الولد اللي قضيت على حياته ومستقبله وأحلامه، مش قادر، خرجوني، خرجووووني….
وخرجوني….
المفروض إني خرجت من الجهاز، اللي كان عبارة عن درج كبير وسط وحدة أدراج، بالظبط شبه أدراج المشرحة، وجوه الدرج في أسلاك كتير كانت متوصلة بدماغي وجسمي كله كان منقوع في سائل غريب…فتحوا الدرج، شالوا الأسلاك وخرجوني…
بره الدرج كان في جهاز، يشبه أجهزة مراقبة نبضات القلب في المستشفيات، بس بيرصد نشاط المخ، هم خرجوني عشان رصدوا حركة هستيرية في الجهاز، إشارات كتيرة وسريعة، عرفوا إن في حاجة مش تمام، إن اليوم بيتكرر…..
بعد ما خرجت نشفوني ولبسوني وقعدوني قدامهم، أنا مكنتش بستجيب، مش بعمل أي حركة ولا بنطق، كإني مانيكان، حاولوا بكل الطرق يخلوني أستجيب، مفيش، عيني مفتوحة، قلبي بينبض، أجهزة جسمي شغالة لكني مش بتجاوب….
هم ميعرفوش….
ده كان اللي بره، إنما جوايا كنت….
كنت بعيش الأحداث بتاعة اليوم لسه! كل لما يخلص يبدأ من تاني، كل مرة بشوف الجريمة، بتختطف، بتضرب، بتعذب، بموت وفي آخر اليوم بدرك إني مش “أنس”، أنا فتحي! وبيزيد عذابي لما بعرف، أنا…المجرم…أنا اللي اتسببت بالعذاب ده لطفل، أنا مصدر كل الأحاسيس المظلمة اللي عاشها…. وبعدها فراغ….دماغي بتفضى وبنسى كل حاجة وبقوم من النوم وأنا فاكر نفسي “أنس” وبعيش اليوم من أول وجديد…سجن أبدي، سجن مش هخرج منه جوه نفسي….خرجوني…خرجووووني…
“تمت”
#سجن_إفتراضي
#ياسمين_رحمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى